المجتمع والدين والروحانيّة في منظور مسيحيّي سوريا

محاضرة الأب باولو دالوليو في ندوة فرنسا-الكرسي الرسولي 
المنعقد بين 30 أيلول و 1 تشرين الأول 2005


هذه الجلسة السابعة للندوة، المخصّصة للطوائف المسيحيّة في الشرق الأوسط، قد أُعطِيت لسوريا. وإذ لم نتمكّن من تنسيق المداخلات المختلفة، فإنّنا نخاطر بالتكرار ونحن نعتذر عن ذلك مسبقاً. ومع ذلك فإنّ مرصد دير مارموسى الحبشيّ، الّذي ما يزال يتطوّر منذ أكثر من عشرين عاماً في قلب المركّب المجتمعيّ والدينيّ والروحيّ لسوريا المعاصرة، يشكّل بالنسبة لي نُهزةً لشهادةٍ تحمل، بتناغمها مع الكلمات الأخرى في هذه الندوة، مساهمةً في تمييزٍ لطريق رجاء.

 

بعض وجهات النظر

 

تشكّل المسيحيّة في الشرق موضوعاً تعود للاهتمام به وسائل الإعلام الغربيّة وفي معظم الأحيان بمعنى الحنين إلى الجذور. وهو حنينٌ مبرّرٌ لأنّ الغرب، في وعيه الثقافيّ، يعرف بأنّه مرتبطٌ بالشرق بكلّ تعقيده. إنّ الاهتمام بالشرق المسيحيّ والتفكير فيه يتجدّدان بالقدر الّذي يتعرّف فيه الغرب إلى نفسه كغربٍ مسيحيّ. لكنّ هذا الاهتمام غالباً ما لا يتجاوز في الحقيقة مستوى الآثاريّة الشاعريّة. هذا هو الحال مثلاً عند الكاتب البريطانيّ ويليام دلريمبل William Dalrymple الّذي يصف في كتابه From the Holy Mountain (من الجبل المقدّس) والمنشور مرّاتٍ عديدةً في العديد من اللغات، كنائسَ الشّرقِ انطلاقاً من مفهوم الحضارات البيزنطيّة، الوريث الشرعيّ للحضارة الشرقيّة القديمة. إنّه يريد أن يكتشف ما "الّذي بقي" وأن "يكون شاهداً على ما كان في الحقيقة آخر ما أفل ومات من بيزنطة". وهو يقول في نهاية كتابه: "المسيحيّة دينٌ شرقيّ نمى بعمقٍ متجذّراً في الخمير الفكريّ للشرق الأوسط. لقد رأى يوحنّا موسكو هذه الغرسة تبدأ بالذّبول تحت هبوب رياح التغيّير الحارّة الّتي ذرت الشرق في أيّامه. وفي سفري على خطاه، رأيت آخر فروعها الصغيرة وهي في طريقها للاستئصال. لقد كان ذلك مساراً مستمرّاً دام طوال ألفٍ ونصف من السنين. وقد رأى موسكو بدايته وشهدت أنا بداية نهايته". لكنّني أشكر الله أنّ الكاتب يظهر نفسه مع ذلك حسّاساً لسلسلةٍ من ظواهر التديّن الفولكلوريّة التّي ما تزال مستمرّةً حتّى يومنا هذا، فيها تُشاهَدُ مظاهر تديّنٍ مشتركةٍ ومتعدّدة في الوقت نفسه: قديمة، كتابيّة، وقرآنيّة. تّظهِر نفسها حيويّةً على الدوام حاملةً للمقدّس معنىً فيه الكثير من الشمول والإنسانيّة.

لا بدّ لي من الإشارة إلى أنّني أقدّر كثيراً عمل باولو روميز Paolo Rumiz في مقالاته الصادرة في مجلّة Repubblica طوال شهر آب الماضي. ففي مقاله "أورشليم الضائعة"، وهي تشكّل عملاً صحافيّاً لا عملاً تاريخيّاً أو تحليلاً سياسيّاً، لحظ روميز جيّداً التعقيد، وكذلك من جهةٍ أخرى تجاور واستمراريّة الشعور الدينيّ الشرق أوسطيّ. ودون نفي البعد الجماعيّ ولا بعض المساعي التوفيقيّة، فهو يشدّد على مرجعيّة الخبرة الشخصيّة للمقدّس ويجد نبع التزامٍ بالإيمان المسيحيّ في النهاية. لقد كان بالإمكان أن يترك نفسه مأخوذاً بعالمٍ دينيٍّ أكثر عمقاً من ذاك المكرّس من قبل بعض فئات المستشرقين من علماء السياسة. إنّه يستشهد بـ إنزو بيانكي Enzo Bianchi: "المقدّس خطٌّ واحد" إنّ رحلته في الشرق الدينيّ هي في العمق، وكما تنبّأ "الأمبا إنزو"، هي عودةٌ إلى جذور الإيمان.

أمّا نظرة جان بيير فالون Jean-Pierre Valognes في عمله الموثّق جيّداً Vie et Mort des chrétiens d'Orient (Fayard, Paris, 1994) (حياة وموت مسيحيّي الشرق) فتطرح سؤالاً في نهاية المقدّمة التي تتضمّن خلاصة الكتاب: "هل سيبقى هناك مسيحيّون في الشرق في الألف الثالثة؟" يعتقد الكاتب أنّه لن يكون هناك بقاءٌ لمسيحييّ الشرق ذو قيمةٍ وحاملاً معنىً. " أي أنّ ما كان يشكّل غناهم لن يكون له رواج. إنّ الشرق الأوسط العربيّ سوف يربح هناك التجانس الدينيّ الّذي تفترضه رؤيته اللاهوتيّة: إنّه لمن منطق النظام الذميّ أن يقودَ إلى الامتصاص الكامل لـ "الديانات الكتابيّة". لسوف يخسر جمال تنوّع التعدّديّة، الّتي لم يهتمّ لها الإسلاميّون. بيد أنّه على امتداد القرون الثلاث عشرة الماضية، وعبر أكثر التقلّبات قسوةً، كانت معركة مسيحيّي الشرق من أطول معارك التاريخ (...) ومع أنّ ذلك من القسوة بمكان فلا بدّ من القبول، ولا بدّ من الفرح بدون شكّ في نهاية الأمر، بأن يجيء مسيحيّوا الشرق، بدل أن يستمرّوا في عيشٍ دون الحدّ الوسط وعلى نحوٍ مهدّد، ليُغنُوا اليوم العالم الغربيّ بإمكانياتهم الواسعة". يبدو المستقبل، ضمن رؤية هذا العمل، مظلماً بالنسبة للمسيحيّين الشرقيّين أقلّه في الشرق. خصوصاً وأنّ المؤلّف يعتقد بأنّ صعود التوجّه الإسلاميّ لا يمكن إلا أن يقود إلى خاتمةٍ تعيسة.

يتوصّل كلود لوريو Claude Lorieux من جهته، في دراسته المثيرة عن مسيحيّة الشرق المعنونة: chrétiens d'orient en terre d'Islame (Perrin, Paris, 2001) (مسيحيّو الشرق في أرض الإسلام) إلى استنتاج وصفٍ مؤلمٍ للمسيرة غير المنتهية لهجرة هؤلاء المسيحيّين إلى الغرب. واصفاً كذلك الجهود المبذولة لخلق توازنٍ في هذه المسيرة ومؤكّداً وظيفة المساعدة التي يقوم بها المسيحيّون المهاجرون لأولئك الباقين. ويصل مع أستاذنا وصديقنا الدمشقيّ، المرحوم أنطون مقدسي (وإلى جانبه أريد أيضاً أن أعبّر عن عميق الاحترام لسيادة المطران الحلبيّ المرحوم ناوفيطس أدلبي، النبيّ المخْلص للرجاء المسيحيّ) إلى الاعتقاد بأنّ : "التاريخ لطالما أخفى مفاجئات" ويستشهد بـ برنانوس Bernanos "الصدفة هي منطق الله" ويضيف مستنتجاً: الصدفة؟ أوليست هي الاسم الآخر للعناية؟".

ضمن الخطّ نفسه نجد أيضاً الأب جان كوربون Jean Corbon الّذي يختم كتابه L'église des arabes (Cerf, Paris, 1977) (كنيسة العرب) قائلاً: "إنّ الكنيسة هي هبة هذا الحبّ الّذي منه انبثقت القيامة، إنّ الحبّ ليتّصف من خلال أولئك الّذين وهب نفسه لهم، لا عبر الراغبين بامتلاكه. والكنيسة بالمثل، إنّها لا تستطيع أن تصف نفسها، الآن وهنا، إلاّ ككنيسةِ عرب. إنّ كلّ خوفٍ ليضمحلّ أمام مثل هذا الحبّ ويصبح كلّ شيءٍ ممكناً: حيث تكون الكنيسة، يكون الرجاء".

وأكثر قرباً منّا، نقرأ للسيّد غسان تويني وزير التربية اللبنانيّ السابق، الّذي يقول بفاعليّةٍ في نهاية محاضرته حول "مكانة ودور ومستقبل مسيحيّي الشرق" (سمير تويني وسمير خليل سمير اليسوعي، دور ومستقبل مسيحيّي الشرق اليوم (CEDRAC ، بيروت، الصفحة 33): "إنّ رسالتي الوحيدة هي نداءٌ لا إلى الأمل فحسب بل خصوصاً إلى العمل، العمل الناضج والناقد والرّزين. إلى عقلانيّةٍ جديدة بدون زخارف. ليس لديّ ما أقترح، مقابل اليأس، غير الإيمان المسيحيّ الّذي يحكم على هذا اليأس. ومن ثمّ الصلاة".

يبدو لي والحال أنّنا نستطيع أن نطرح تأكيدين متفائلين مؤسّسين على كون المسيحيّين الشرقيّين، ورغم كلّ الصعوبات، ما يزالون هنا. إنّه لمن المناسب أن نعيد القول إنّه من النادر تاريخيّاً أن مارست الجماعة المسلمة إلغاءً للمسيحيّة، دون أن يعني هذا أنّ المسيحيّين لم يتعرّضوا للمضايقات. ليس ثمّة هويّة في مواجهتنا تريد تدميرنا. أمامنا، من الجهة المسلمة، مجال للتطوّر الإيجابيّ الممكن.

أمّا التأكيد المتفائل الثاني فهو اعتبارنا وجود المسيحيّين خلال أربعة عشر قرناً يمكن أن يعني أنّهم لم يَعتَبِروا الحياة مع الآخرين نوعا ًمن جحيم، وأنّ مجرّد واقع كونهم هنا، وعدم حكمهم بأنّ من الضروري الانفصال اجتماعيّاً كي يحافظوا على جوهر الهويّة المسيحيّة عبر هجرةٍ اختياريّة بقدرٍ أو بآخر، يشير إلى كونهم يعتبرون - أو بالأحرى إلى كوننا نعتبر إذا أجزت لنفسي الحديث باسمهم ومعهم - الحياة مع الآخر حالةً عاديّةً وطبيعيّة. يكشف هذا الواقع عن قيمٍ إنسانيّةٍ مشتركة وفي النهاية عن بعدٍ لاهوتيٍّ حتّى ولو لم يكن مصاغاً على نحوٍ واعٍ وجليّ. إنّ الكنيسة الّتي تحتفل بسرّها في وسطٍ مسلمٍ على نحوٍ مستمرٍّ منذ أربعة عشر قرناً، تحتفل أيضاً بطبيعة الحال، وكتحصيل حاصل بسرّ الحياة المشتركة وبسرّ حقيقيّة الإسلام. ربّما كان ثمّة حقلٌ واسعٌ للأبحاث اللاهوتيّة هنا ينتظر أن يُروى بقدر ما يتقدّم الحوار بين الأديان.

 

الشرق وسرّ القربان


يجري لقاؤنا في آفاق السينودس المقبل للمطارنة الّذين سيجتمعون حول موضوع سرّ القربان. إنّ الاحتفال بهذا السرّ هو في الشرق وقبل كلّ شيءٍ آخر فعلُ الاحتفال بالحدث الرمزيّ الفعّال الإنسانيّ والإلهيّ معاً، فيه تعترف جماعة التلاميذ في كلّ وقتٍ، مدفوعةً بروح النبوّة، بالاستمرار اليوميّ لتجسّد الكلمة بقدر ما تشكر الله، الآب، على كلّ شيءٍ وباسم كلّ شيء. إنّ شفاعة سرّ القربان، الفعّالة بواسطة صلاة استحضار الروح القدس، تتطلّب وعياً معيّناً من جهة وتُدخِلُ في الوقت نفسه في هذا المستوى من الوعي من جهةٍ أخرى. وهو مستوىً من الوعي غنيٌّ بالفعل الحاضر في كلّ مكان والشامل الكلّ للرحمة الإلهيّة. وهذه الرحمة قد أوصلت المسيحيّين، عبر الأجيال، إلى نظرةٍ للرجاء ملتزمةٍ بما هو يوميّ، فهي نظرةٌ تعرف كيف ترى ما هو أكثر بعداً وعمقاً من الحجج المتناقضة للسطح المائج دوماً للأحوال السياسيّة ولاستخدام البعد الدينيّ، وللأمراض الفئويّة والتوتاليتاريّة. إنّ تعدّديّة الأشكال المتناغمة، والمدهشة للاحتفال الواحد بسرّ القربان في الشرق (لأنّ الاحتفال واحدٌ دوماً عبر تعدّد الطقوس والمظاهر) تعبّر عن مفهومٍ تعدّديٍّ للكنيسة مبنيٍّ ضمن ممارسة الشركة الجماعيّة في السينودس وفي ملء المشاركة في المسؤوليّة من قبل العلمانيّين في الحياة الجماعيّة.

إنّ التعدّديّة الطقسيّة الشرقيّة هي شاهدٌ حيٌّ دوماً على الانثقافات العديدة للإيمان المسيحيّ ضمن التعقيد الثقافيّ للشرق القديم. لكنّ هذا لم يمنع، وخصوصاً ضمن المحيط العربيّ، بل ساند بالأحرى، قدرةً على العلاقة العميقة مع الواقع العربيّ-الإسلاميّ الّذي أنتج، ربّما خارج كلّ تنظير، إخصاباً متبادلاً مسيحيّاً إسلاميّاً يشهد فيه تعريب الطقوس، منذ القرون الوسطى، على الإسهام المسيحيّ في بناء المدينة المشتركة، في الوقت نفسه الّذي يُدخِل فيه هذا التعريب الآثار المقدِّسة لسرّ الذبيحة الإلهيّة في قلب هذا المجتمع المشترك، هنا حيث المسيحيّ "العربيّ" يعيش وحدةً سرّيّةً حقيقيّة بين اللحظة الصوفيّة المشتركة وزمن تقديس الحياة الاجتماعيّة. ليس الإسلام بغريبٍ عن صلاتنا: إنّه ليس غريباً أبداً عن همومنا ولا هو غريبٌ عن شفاعتا وهو لا يمكن أن يكون غريباً أيضاً عن رؤيتنا وعن مفهومنا لساعة الآخرة. ونحن أيضاً لسنا غرباء عنهم بالمقابل.

يمكن للسينودس حول سرّ القربان، ضمن الوضع الحاليّ من التراجع الكنسيّ أن يقع في خطر اتّباع مشروعٍ مبنيٍّ على استعادة نموذجٍ موحّد وعلى انتظامٍ دفاعيّ الطابع. إنّ بعض المقاطع من الوثيقة التحضيريّة لهذا السينودس يمكن أن تجعلنا نخشى ذلك.

تساعد شهادات الكنائس الشرقيّة الكنيسة الجامعة، كما كان الحال في عهد بطريرك الروم الكاثوليك مكسيموس الخامس خلال المجمع الفاتيكاني الثاني، على تجاوز كلّ خطر ميلٍ إلى مفهومٍ منغلق للكنيسة نحو مفهوم كنيسة شركة بكونها نبوّة لمحوريّة المسيح تعدّدية ومستقبِلة. ولا يمكن لهذا الأمر إلا أن يحمل آثاراً مفيدةً على المستوى الطقوسيّ وبالتالي اللاهوتيّ وأخيراً السياسيّ.

يعيدنا موضوع سرّ القربان إلى التأمّل في حقيقيّة الكنيسة بكونها سرّ الخلاص الشامل. إنّنا لمقودون، في سياق موضوعنا، إلى التفكّر في حضور هذا السرّ الكنسيّ بطريقةٍ نكون بها حاضرين كبذورٍ قبل كلّ شيء وبالتالي على نحوٍ جامعٍ لكلّ التعقيد الثقافيّ والدينيّ لبلدنا. يتعلّق الأمر من ثمّ بحضور خميرةٍ ذلك أنّ ثمّة رمزاً قويّاً هنا لتعزية كنيسة أقلّيّةٍ تواجه على الدوام عجيناً كبيراً يجب أن يكون عجيناً جيّداً ما دام يستحقّ أن يخمّر. إنّ كنيستنا أخيراً هي كنيسة استقبال وضيافة، وليست بالتأكيد كنيسة غيتو وانفصال. أعتقد أنّه لو قيّد لنضج لاهوتٍ متفائلٍ بتواضع للحضور المسيحيّ في المحيط الإسلاميّ أن يتطوّر، لكان بالإمكان أن نرجو له، حتّى وإن كان أقلّ وجوداً ممّا هو عليه اليوم، أن يتفتّح في السلام والفرح رغم الاضطهادات التي لا يمكن تجنّبها.

إنّ وضعنا كمسيحيّين شرقيّين لمختلفٌ وسيبقى كذلك إنشاء الله، عن وضع رعيّة مستوطني الجزائر الصغيرة الباقية في الجزائر بعد الاستقلال. لست أعتقد أنّنا نستطيع، من أجل الخروج من صعوباتنا، أن نتمنّى تجاوزاً للبعد الدينيّ المسقط على علمنةٍ تريد لنفسها أن تكون أخلاقيّةً وإنسانيّة، محرِّرةً المجتمع في الوقت نفسه من التديّن، وفيها تجد شهادة الإيمان المسيحيّ المتعالي عن التديّن مجالاً جديداً. إنّ إضعاف المحيط الإسلاميّ كان سيعود في هذه الحالة المفترضة لصالح تحقيق الهويّة المسيحيّة الإنجيليّة. يبدو الأب كريستوف تيوبالد اليسوعي Christophe Theobald (Presence d'évangile,"lire l'évangile en Algérie et ailleurs" les édition de l'atelier, Paris) (حضورات الإنجيل، "قراءة الإنجيل في الجزائر وفي أماكن أخرى") متبنّياً – لكنّني أخشى كوني قد بسّطت فكرته كثيراً – هذا الوضع بالنسبة لحالة الجزائر، مقترحاً في الوقت نفسه تأمّلاً جميلاً حول سرّ الحضور المسيحيّ الراغب في تجاوز التناقض الظاهريّ بين موقف الحوار وموقف التبشير. يبقى أنّ مجال الدينيّ والمقدّس يظلّ، في رأيي، موضع إعادة اكتشافٍ ومشاركة وليس بالأحرى موضع تجاوز.

 

المسكونيّة بالطريقة السوريّة


خطت الحركة المسكونيّة في سوريا، منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، خطواتٍٍ كبيرةً إلى الأمام، ذلك أنّها وجدت في النسيج البشريّ للمجتمع السوريّ أخصب الأرض. إنّ ممارسةً واسعةً للضيافة في المناولة تميّز كنائسنا وتنبئ عن مفهوم للكنيسة يقترن فيه وعي الثقل اللاهوتيّ للكثلكة الصادقة، أكثر على الدوام، بالاعتراف بقيمة كنوز الشرق المسيحيّ. إنّ هذا البعد القربانيّ للمسكونيّة يعبّر أسراريّاً عن معنى المشاركة في الموائد (الخبز والملح) في مجتمعنا الدينيّ المتعدّد والمتمحور حول العلاقة الإسلاميّة المسيحيّة، وهذه المشاركة يشعر بقيمتها وبالقدر نفسه كلّ من مسلمينا ومسيحيّينا. إنّ هذه المشاركة تعيد في نهاية الأمر إلى شركةٍ قربانيّةٍ كونيّةٍ أخيريّاً. إذ ثمّة حنينٌ عميقٌ لتعايشٍ كاملٍ في الملكوت يسكن احتفالاتنا القربانيّة واستحالة عيش ذلك اليوم، أي عدم إمكانية المناولة المشتركة اليوم، هو ما يحمي بعنايةٍ إلهيّة الوظيفة الخاصّة بالإسلام ويجبرنا على أن نقدّر مدى مناسبة وجود واستمرار الأمّة الإسلاميّة وعلى أخذ تطوّر هذه الأمّة، كتدبيرٍ إلهيٍّ، بعين الاعتبار، دون أن نخضع من أجل هذا، وعلى نحوٍ جامدٍ لواقع مواجهةٍ ولانغلاقٍ متبادل.

تحتفل كنائسنا في الشرق بسرّ القربان مستخدمةً خبزاً مختمراً. وهي طريقةٌ للتعبير عن وعي بناء كنيسة الأمم أكثر من الرغبة في أخذ مكان إسرائيل. وطوائفنا المسيحيّة عاشت من جهة ٍأخرى، وفي أكثر الأحيان، جنباً إلى جنبٍ في المدن مع الجماعات اليهوديّة العربيّة مقتسمةً معها الخبز والملح. ومع ذلك يجب الإقرار بأنّ تعابيراً معاديةً لليهود، حتّى في النصوص الطقسيّة الموروثة من الماضي، توجد في الشرق كما في الغرب. إنّ ما نتمنّاه هو أن تستطيع الكنيسة اللاتينيّة، وهي الأغلبيّة العظمى في الكنيسة الكاثوليكيّة، والقائمة في الماضي على نموذجٍ من وحدة الشكل، وذلك وفق الوعي التقليديّ بأن تكون إسرائيل الجديدة، الممثَّلة ربّما بقربان الفطير، أن تستطيع هذه الكنيسة، في مراجعتها المعاصرة والجذريّة لموقفها من اليهوديّة وحتّى من دولة إسرائيل، الاعتراف بالمثل بحقوق العرب، أبناء إسماعيل – وهي حقوقٌ تطالب بها الأمّة الإسلاميّة بجملتها بقدر ما تطالب بها كنيسة العرب، وكذلك جميع المسيحيّين الشرقيّين، السريان والأرمن والكلدان...- بحصّتهم من الإرث الإبراهيميّ الّذي لا ينفصل عن قدسيّة وعدم قابليّة تقسيم أرض كنعان، فلسطين-إسرائيل، الّتي تعني أيضاً قدسيّة الحقّ وقدسيّة الشخص.

 

الوحدة العربية والوحدة الوطنيّة السوريّة ودور الكنائس

أتابع التأكيد بأنّ الوعي الوطنيّ السوريّ يرتبط جذريّاً بالوعي القوميّ العربيّ. إنّ كلّ جهدٍ غربيّ، في الشرق الأوسط، متّفقٍ أحياناً مع التجربة الإقليميّة لبعض الأقلّيات، المسيحيّة أو المسلمة، من أجل تحجيم الشرق العربيّ الإسلاميّ عبر التقسيم الطائفيّ سوف يكون نصيبه على المدى الطويل الفشل إنشاء الله. إنّ الحركة المتنامية لتفاهم الطوائف المختلفة بين مختلف الانتماءات الإسلاميّة، خصوصاً بين السنّة والشيعة، في سوريا، لا يمكن فهمه كمجرّد عمليّة حمايةٍ ذاتيّة من الدولة البعثيّة، بل هو يمثّل على الخصوص ضرورةً للوحدة كردّ فعلٍ ضدّ القوى المظلمة التي تريد زجّ شعوبنا في جحيم الحروب الأهليّة. وليس من مصلحة الكنائس بطبيعة الحال، ولا من رسالتها، أن تصفّق للتوتّرات الداخليّة في العالم الإسلاميّ. لأنّ من شأن ذلك أن يزيل، في نهاية الأمر، كلّ إمكانيّةٍ لحياة طوائفنا المسيحيّة في الشرق.

إنّ الكنائس السوريّة لمدعوّةٌ على نحوٍ مسكونيٍّ إلى تميّيزٍ كبير. ذلك أنّ عليها أن تقرّر في الإيمان، تراتبيّة أولويّاتها الرعويّة، محتفظةً في الوقت نفسه بتعدّديّةٍ مواهبيّة وبتكامليّةٍ بين وظائفها المتبادلة.

على المستوى الاجتماعيّ، لا بدّ بالطبع من التشديد على قيمة احترام الخصوصيّات الإثنيّة-الدينيّة لطوائفنا. إنّها لمسألةٌ من مسائل حقوق الإنسان والشعوب. وعند هذا المستوى فإنّ هناك بالتأكيد قضيّةً هامّةً هي قضيّة الأرمن وأخرى تلفت النظر هي قضيّة السريان. إنّ الكنيستين الكاثوليكيّتين الأرمنيّة والسريانيّة لا يمكن أن تنفصلا عن تكافلهما مع الكنائس الشقيقات لهما. (والهجرة الكبيرة للمسيحيّين العراقيّين إلى سوريا تطرح أيضاً القضيّة الكلدانيّة الآشوريّة) إنّ انفصالاً ناقداً لهذه الكنائس عن العربيّة المحيطة سيكون خطأً عميقاً ضدّ التاريخ ومناقضاً لرؤيةٍ موضوعيّة، غير فئويّة، لتاريخ هذه المنطقة: إنّ العروبة لتشكّل المبدأ لوحدةٍ قطريّة لا تتناقض مع احترام وتناغم الخصوصيّات الإثنيّة والدينيّة.

إنّ كنيسة سوريا، وهو أمرٌ لا بدّ من الاعتراف به، هي عربيّةٌ جزئيّاً منذ العهد ما قبل الإسلاميّ. وأكثر من ذلك فإنّ تعريب طوائفنا، وعلى مختلف مستوياته، هو عملٌ يرجع إلى العصر الأمويّ وقد تطوّر تدريحيّاً منذ ذلك الوقت.

إنّ الجماعات البيزنطيّة، الأورثوذكسيّة، أو الكاثوليكيّة ذات الأصول العربيّة قبل الإسلاميّة أو المستعربة منذ عهدٍ بعيد، والّتي تعتبر نفسها، بسهولةٍ أكبر من المسيحيّين الآخرين، عربيّةً بعمق، تتجنّب من جهتها أن تعتبر نفسها صاحبة الحقّ بأن تكون الجماعة المسيحيّة السوريّة الوحيدة.

عند هذه النقطة يجب الاعتراف بالخصوصيّات الإثنيّة والطائفيّة الأخرى الّتي لا ترتبط بالهويّة المسيحيّة ولا بدّ من احترامها. وينطبق هذا على الأكراد، السوريّين كلّيّاً والمساهمين في الوقت نفسه بهويّةٍ ثقافيّةٍ محلّيّة وكذلك على الفلسطينيّين الّذين يتمتّعون بالحقوق المدنيّة الكاملة منتظرين أن يعودوا إلى وطنهم. إنّ انتباهاً للحوار الخاصّ والمتميّز بحسب المناطق يجب أن يكرّس بالمثل للجماعات الدرزيّة والشيعيّة العلويّة وغيرها. هناك مجموعاتٌ أخرى يجب اللقاء معها أيضاً. أفكّر بالشركس وبالتركمان وبالغجر. أعتقد من جهةٍ أخرى أنّه سيكون من المفيد وجود علاقاتٍ أكثر متابعةً مع القبائل العربيّة في شرق سوريا.

يجب على كلّ هذا بطبيعة الحال ألا ينسينا – والدولة السوريّة لا تنسى ذلك من جهتها – الأهمّية الحاسمة للاعتراف بحقوق الأغلبيّة الساحقة السنيّة العربيّة وللالتزام في حوارٍ طويل الأجل وذو قيمةٍ معها. ثمّة هنا الشرط المسبق لكلّ محاولةٍ وهو التوصّل في سوريا، سلميّاً وبشكل مستدام، لديمقراطيّةٍ ناضجة ومحلّيّة.

 

الكنيسة وحرّيّة الضمير


يلاحَظ أنّه إلى جانب وجود حرّيّةٍ دينيّةٍ محمودةٍ وحقيقيّةٍ في سوريا، وهو أمرٌ معروف، فإنّ ثمّة قصورٌ عميق على مستوى ممارسة حقّ حرّيّة الضمير وكذلك حرّيّة الاختيار الدينيّ (الاستحالة القانونيّة، على سبيل المثال، لتغيّير الدين إلا باتّجاهِ الإسلام. واستحالة أن تتزوّج فتاةٌ مسلمة من شابٍّ مسيحيّ، الخ..) والأمر لا يتعلّق هنا بالتعبير عن خيارٍ يتبنّاه المجتمع السوريّ المعاصر بقدر ما هو ثمرة إرثٍ ثقافيّ معيّن. فلقد كان الفرد على الدوام يعتبر، وعلى نحوٍ تقليديّ، كعضوٍ ينتمي إلى جماعةٍ دينيّةٍ أو إثنيّة، الخ.. إنّ حرّيّة الضمير تؤدّي إلى أزمةٍ في منطق الانتماءات وتُدخِل فكرة استقلالٍ ذاتيٍّ يصعب، من الناحية الثقافيّة، على أوساطنا الكنسيّة أن تتبنّاها. علينا أن ننتظر من الكنائس، وعلى الخصوص من الكنائس الكاثوليكيّة، أن تفتح المجال أمام ثقافة حرّيّة ضميرٍ، لا تكون مفروضةً من الخارج بل تأخذ مكانها عبر الحوار وعبر إمكانيّات نضجِ العناصر الثقافيّة الخاصّة بتقاليد مجتمعنا والنابعة من داخله ولا سيّما، وقبل كلّ شيءٍ، في بعده الإسلاميّ.

 

الكنيسة السوريّة والعولمة وإقامة الديمقراطيّة


في إطار عولمةٍ، هي أيضاً عولمةٌ للفساد، لم يعد من المعقول انتظار مستقبلٍ للكنائس، وحتّى بالنظر إلى هذه الكنائس كتكتّلاتٍ اجتماعيّة، محميٍّ  من قبل نظامٍ سلطويٍّ توتاليتاريّ حتّى لو كان هذا النظام صاحب أفضل النوايا. وسوريا لا تشكّل استثناءً من ذلك. ورئيس الجمهوريّة وأفضل مساعديه أيضاً لا يخدعون أنفسهم فيما يخصّ هذا الموضوع. ليس التطوّر الديمقراطيّ مطلباً خارجيّاً مصاغاً على نحوٍ سيّءٍ بل هو توقٌ عميقٌ يشعر به الداخل. إنّ إرادة التعبير عن مسيرة بناءٍ للديمقراطيّة على نحوٍ تدريجيّ هو أمرٌ لا يمكن أن يخفي بل يعبّر بالأحرى عن النيّة الحازمة في تجنّب كلّ حمام دمٍ محتمل، وفي تشجيع انبثاق مجتمعٍ مدنيٍّ ناضجٍ وكذلك في التأكيد، بطريقةٍ عبر انتمائيّةٍ على موقفٍ دينيٍّ وروحيّ وثقافيّ متسامحٍ وإنسانيّ.

لقد أفرزت السلطات الدينيّة تقليديّاً موقفاً من النظام يحمي رعيّتها ويترافق من جهةٍ أخرى مع خضوعٍ للسلطة الشموليّة وهو خضوعٌ ضروريّ لكنّه يخاطر، عن غير وعيٍ في معظم الأحوال، بتواطؤٍ موازٍ وباختلاط مصالح. يسود الانطباع في بعض الأحيان بأنّ المصالح الشخصيّة والطائفيّة المتكلّسة تساهم في إبطاء المسيرة الديمقراطيّة والجهود المبذولة لجعل المجتمع أكثر شفافيّةً.

ثمّة تدرّجٌ إذاً في الحوار وعبر الحوار، المدفوع بحرّيّة تعبيرٍ متزايدة، وبحرّية تجمّعٍ وحرّيّة ضمير كما بشفافيّةٍ تساعد المعركة ضدّ الفساد. ولا يمكن إنجاز هذا الأمر بالتأكيد دون مساهمة النقد البنّاء الّذي يمكن أن يأتينا من الخارج وخصوصاً من أوروبا إنّما بعيداً عن منطق العقوبات. (نعلم جميعاً كم كانت العقوبات على العراق عاملاً هدّاماً للكنيسة العراقيّة) والشفافيّة من ثمّ أمرٌ مطلوبٌ في العدالة والحقّ بين ضفّتي البحر المتوسّط، وليس من قبل ضفّةٍ واحدةٍ منه. أمّا الكنيسة فهي تستطيع القيام بالكثير من الأمور في التذكير بالمبادئ، وبتنبيه الضمائر وبطلب التطابق المنطقيّ بين سياسة حقوق الإنسان والسياسة الاقتصاديّة والعسكريّة، في منطق من عولمةِ وتعميمِ إضفاءِ طابعٍ أخلاقيٍّ على الجوّ السياسيّ. هنا أيضاً يمكن للحوار بين القادة الروحيّين المسلمين والمسيحيّين واليهود أن يقوم بدورٍ رئيسيٍّ في تحضير مشروعٍ قابلٍ للتطبيق. كما أنّ الانفتاح على الفكر العلمانيّ، وهو فكرٌ حاضرٌ منذ وقتٍ طويلٍ في البانوارما الثقافيّة السوريّة، مهمٌّ ايضاً. إنّ للحوار بين الخبراء، سواء كان ذلك داخل الكنيسة (وهي فرصةٌ لإقامة لجانٍ لاهوتيّةٍ وطنيّة) أو ضمن محيطٍ ثقافيّ ودينيٍّ أوسع، أهمّية كبرى أيضاً. بيد أنّ الحوار الأكثر أهمّيّةً ربّما يبقى حوار الحياة، في أساس وفي قلب مختلف قطاعات حياة المجتمع.

من الأكيد تماماً وكم بالأحرى في محيطٍ إسلاميٍّ، يتّصف من بين أشياء أخرى بعودةٍ مدهشةٍ للكفاح الشيعيّ من أجل العدالة، أنّ قضيّة العدالة الاجتماعيّة الراسخة، على المستويات المحلّية والإقليميّة والكوكبيّة، لا يمكن إلا أن تحتلّ المكان الأوّل في أولويات اهتماماتنا. ومن ناحيةٍ أخرى يشكّل تأخّر النموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ في البلد، المرتبط بمستوىً عالٍ من البطالة لا يمكن احتماله، أحد الأسباب الأكثر دفعاً للهجرة النهائيّة لمسيحيّينا.

إنّ الانفتاح على التأثيرات المرجوّة للعولمة يقتضي الإسهام في المعركة ضدّ الآثار المشؤومة لها، وهي على الخصوص آثارٌ اقتصاديّةٌ وثقافيّة. يشكّل الإسلام هنا ثقلاً مقابلاً ومؤثّراً في وجه عولمةٍ شموليّةٍ (توتاليتاريّة) وإمبرياليّةٍ في آخر المطاف.

الكفاح ضدّ الإرهاب ودور الكنيسة


كيف تُرى قضيّة الإرهاب من داخل سوريا؟ أيّ موقفٍ عادلٍ ومتوازنٍ يمكن أن يكون للكنيسة؟ يبدو لي أنّ من الصعب القيام بتميّيز دون أخذ المنازعات الكبيرة بين شعوبنا والغرب بعين الاعتبار. إنّ كل ّالقضايا تبرز هنا: الماضي الاستعماريّ، الصراع العربيّ الإسرائيليّ، التخلّف الاقتصاديّ والبنيويّ، الرغبة في التحرّر العربيّ والإسلاميّ، عدم التوازن الاستراتيجي الدائم وردّ الفعل المعارض للعولمة... تطالب سوريا، وهي ليست الوحيدة، بأن نعرف كيف نميّز بين المقاومة والإرهاب. لا يمكن للمؤمنين، سواء كانوا مسيحيّين أو مسلمين، الامتناع عن المشاركة ـ على نحوٍ ملتزمٍ، في النقاش الأخلاقيّ حول الوسائل المشروعة للمقاومة كما حول تعريفٍ محدّدٍ للإرهاب. يمكن للكنائس بالتأكيد أن تقوم بالكثير من أجل محاربة ثقافة اليأس ومساعدة إخواننا المسلمين، عبر أوسع حوار، على التفكّر حول مفهوم الفترة الزمنيّة القصيرة بيننا والآخرة وهو مفهومٌ ماديّ للآخرة يشكّل الإطار الرمزيّ للإرهاب الانتحاريّ. للكنائس أيضاً أن تعمّق وأن تنشر ثقافةَ لاعنف وكفاحٍ لاعنفيٍّ من أجل العدالة. تستطيع الكنائس في الوقت نفسه أن تلعب دوراً كبيراً في إماطة اللثام عن مدى ما يمكن للخطاب الغربيّ ضدّ الإرهاب أن يخفي من رغبة هذا الغرب في العدوان والهيمنة. لا يمكن لجهود الحوار، بحسب خبرتي، أن تحدّ نفسها في الأوساط المدعوّة معتدلةً لأنّ ذلك ينطوي على خطر استبعاد فئاتٍ كبيرةٍ من الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ. يجب أن يكون الحوار منتشراً حتّى أثناء النزاع. لن يكون هناك سلامٌ في الشرق الأوسط، لا اجتماعيّ ولا دوليّ دون تطوّرٍ عميقٍ للحركة الإسلاميّة (المحرَّكة من الغرب لأسباب أخرى كما نعلم في زمن الحرب الباردة حتّى عام 1989 وأحياناً بعد ذلك) ليست الأصوليّة الإسلاميّة بقابلةٍ للتطويق. إنّما يجب الاعتراف بها وفهمها في أسباب وجودها الاجتماعيّة والثقافيّة. يجب محاربتها في تعابيرها الإجراميّة دون التخلّي عن الشرعيّة الديمقراطيّة وعن كرامة كلّ إنسان. إنّه لمن التناقض ضمن هذا المعنى، تسليم سجناء إلى بلادٍ نعلم مسبقاً أنّهم سيلقون فيها التعذيب. إنّ الكفاح ضدّ الإرهاب يتطلّب الحزم بالتأكيد لكنّه لن ينال نجاحاً إن لم يكن مقوداً قبل كلّ شيءٍ في إطار إصلاحٍ للحياة المدنيّة الدوليّة.

للكنائس دورٌ كبيرٌ يمكن أن تلعبه. يمكنها أن تتابع الحوار حتّى في وقت النزاع. وتستطيع المساهمة في المفاوضات بالنّظر إلى إحلال السلام في نزاعاتٍ خاصّة. وتستطيع، بالدّفاع عن الكرامة الإنسانيّة في كلّ مكان، أن تُظهِر وجهاً آخر للعالم المسيحيّ. يجب محاربة الإرهاب مع المسلمين وليس ضدّهم. ذلك أنّه يشكّل تجلّياً لمرضٍ داخليٍّ في العالم الإسلاميّ بقدر ما يشكّل إفرازاً لتناقضات المجتمع الدوليّ. إنّه جرحٌ يُظهِرُ مرضاً في العلاقات.

خاتمة

سررت منذ أيّامٍ بزيارةٍ قمتُ بها لقداسة البطريرك زكّا الأوّل بطريرك الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة. وأخبرته بأنّني آتٍ إلى روما من أجل هذه الندوة وسألته رأياً. حمّلني قداسته تهانيه الأكثر حرارةً للكنيسة المسيحيّة الكاثوليكيّة بمناسبة انتخاب البابا الجديد. وهو يرى أنّ قداسة البابا مبارك السادس عشر، بتعلّقه الديناميكيّ والعميق بالإيمان القويم وبعقيدة الآباء، سيكون قادراً على قيادة الكنيسة في مواجهة التحدّيات الكبرى لعصرنا. لقد كانت كلماته مصدر راحةٍ لنفسي. وطلب منّي أيضاً المرافعة من أجل احترام وإعلاء شأن أصالة خصوصيّات الكنائس الشرقيّة لأنّ الحال لم يكن دوماً كذلك. أعتقد من جهةٍ أخرى أنّ البطريرك زكّا الأوّل يمثّل، عبر الخطّ البيانيّ لسنوات خدمته الخمس والعشرين على رأس كنيسته، الجهدَ المبذول لتأكيد أولويّة دعم وإعادة تجذّر الحضور المسيحيّ في البلد بشجاعةٍ وتفاؤلٍ واقعيّ. إنّه يعتقد أنّ هذا العالم العربيّ السوريّ، الّذي يعترف به كبلدٍ مسلمٍ بالأغلبيّة، هو المجال الطبيعيّ، بمعنىٍ من المعاني، لحياة ولنموّ ولشهادة كنيسته. وهذه الفكرة لم تبقَ نظريّةً عنده. إنّما على العكس، لقد عرفت كيف تأخذ جسماً في مؤسّساتٍ وفي نشاطٍ وفي حضورٍ محسوسٍ وفعّالٍ، مقترنةًٍ في الوقت نفسه مع نسيج شبكةٍ شديدة التماسك من التعاون المتبادل والتنسيق في كنيسته، رغم توزّع هذه الكنيسة في أرجاء العالم الأربعة. كلّ هذا مع موقفِ سلامٍ واستقبالٍ وتواضعٍ إنجيليّ هو غاية ما يُبتَغى. فلنطلب نعمة معرفة الإتّباع المخلص لمثل هؤلاء الأشخاص.

Arabic