1 أيار 2012 ردًَّا لرصاصةٍ افتراضية

 

 

1 أيار 2012 ردًَّا لرصاصةٍ افتراضية

الأب باولو دالوليو- الراهب بولص

كنت في الأيام الأخيرة أحلم وأشعر بأنّ هناك مَن يخطط لاغتيالي ويذخّر رصاصة في مسدّسه ليرميني بها. استرجعت طمأنينة نفسي عندما اكتشفت أنّني رُميتُ برصاصة ولكنّها افتراضية... أقلّه إلى اليوم! هنا الرابط لقراءة "النص" المُدهش الذي وضع على شبكة الانترنت.

 

http://www.alarabalyawm.net/pages.php?articles_id=19419

 

هذا "النص" الذي يهاجمني بالأكاذيب والتشويه للحقائق لا يُظهر اسم كاتبه مع أنّه يذكر في طيّاته السيد محي الدين ريا، من مدينة النبك، الذي لا أظنني أعرفه، وكذلك السيد أمين مرشاق وأباه اللذين أعرفهما جيدًا، ويدّعي أنّه ينقل آراءهم. فإني أناشدهم أن يؤكّدوا على مواقفهم أو أن ينكروها إن لم تُنقَل بشكل أمين من قِبَل الكاتب المجهول هذا.

من "النص" يبدو وكأنّي، بكوني أبًا يسوعيًا، أشترك في "زرع الدسائس والفتنة والخلاف بين أتباع الديانة المسيحية". إنّي أفتخر بانتمائي إلى الرهبانية اليسوعية وهي جماعة كاثوليكية عالمية معروفة بعدد مثقَّفيها وبسعة خدماتها الإنسانية وهذه الرهبانية موجودة في الشرق أيضًا منذ قرون وكما هو معروف اشتركتْ بشكل فعّال في النهضة العربية وتطوّر العلوم في منطقتنا وخدمة المواطنين التربوية.

يتّهمني "النص" بالتورط مع الصهاينة ممّا يذكّرني هذا باتهامات بعض الجَهَلة بكوني جاسوسًا اسرائيليًا وهذه تهمة رخيصة وبغيضة ولعلّها نشأت من التزامنا بقراءة الكتاب المقدّس بالكامل في دير مار موسى الحبشي وتلاوة المزامير (زبور النبي داوود) والقيام بالدّعاء لسلامٍ شامل وعادل في الأرض الأنبياء المقدّسة... مع عدم تعليم البغض والكره لغير المسيحيين من مسلمين ويهود وغيرهم. ومن الجدير بالذكر أن هيئات الأمن السورية قامت، مدة الثلاثين سنة من إقامتي في النبك، بالتحقيقات المناسبة وتأكدت من كون هذه الافتراءات باطلة تماماً.

لا أنكر مشاركتي في دراسة مشروع "المسار الإبراهيمي" ((www.abrahampath.org منذ بدايته عام 2003. وُضِعَ هذا المشروع ردًّا على فكرة تصادم الحضارات فلا يمكن إطلاقاً إدراجه ضمن أجندات صهيونية فالعكس صحيح طالما يقصد دعم المجتمع المدني المشرقي بسعيه إلى استرداد الحقوق وتوطيد العدل والإنصاف والتنمية لصالح المجتمع ككل وليس لزمرة من المُستفيدين. إنّه مشروع تقوى وحوار أخوي بين أبناء إبراهيم الخليل من الديانات السماوية. وهو أيضًا مشروع سياحي هام يفيد وطننا. للأسف الشديد استطاعت الاتهامات الكاذبة والمبنية على منافسات ذات صلة بالمصالح الشخصية وأحيانًا بالفساد، حتى في صفوف رجال الدين، أن ترمي الشكوك في أصدق النيّات وأكثر المواقف فائدة للبلد والمجتمع. هل يا تُرى لاقى هذا المشروع استياء البعض لأنّه تبنّى الإدارة التشاركية ودعم المجتمع الأهلي المحلّي بروح تضامنية؟ على كلّ حال كان موقفي دائمًا موقف الشفافية والوضوح مع الحكومة والفعاليّات المحليّة. كلّي رجاء أنّ الزمن سوف يُبرهن صحة نظرنا في هذا الخصوص لأني أعتقد أنّ ثقافة الصهيونية التوسعيّة لا تُقاوَم بشكل فعّال إلاّ من خلال العمل الثقافي الموضوعي والعلمي والمُنفتح والقادر على جرّ الرأي العالمي إلى استيعاب حقوق العرب ودعمها.

 

يقول كاتبنا المجهول عنّي إنّني عملت على إبعاد الخوري جبرائيل ديب من النبك، والله شاهد والكلّ يعلم أنّه بالرغم من الصعوبات اللاهوتية والإدارية لم أطرح فكرة إبعاده مُطلقًا فالأب جبرائيل ابن النبك وأنا من عِداد الذين أقنعوه أن يعود إليها من بيروت حيث كان مقيمًا إلى سنة 1986... الحقيقة أنني تفاجأت عندما ترك النبك لمّا اختير لرئاسة دير الشرفة البطريركي في لبنان في منتصف التسعينيات وهو من أهمّ مؤسسات الطائفة السريانية الكاثوليكية. والحمد لله شهدت السنوات الأخيرة تقدُّمًا ملموسًا جميلاً في العلاقة بيني وبين هذا الكاهن الفاضل. أمّا عن فريز مرشاق، الذي أُتّهَمتُ بإبعاده التعسّفي من الدير، فلم يبعده أحدٌ وما قيل لا يطابق الحقيقة كما يعرف جيدًا أخوه أمين.

ليس واضحًا المقصود بالقول "إرساله الشبان لإكمال دراستهم في أوروبا على نفقته الخاصة وتوظيفهم للعمل معه". الحمد لله، استطعنا في السنوات الماضية بمساعدة مؤسسات خيرية كاثوليكية ومساهمة عدد من الأصدقاء أن نرسل عددًا من راهبات ورهبان الدير لمتابعة دراستهم في روما... فأين الجريمة؟ وساهمنا أيضًا في الحصول على منحة دراسية بريطانية لشاب معروف من النبك لدراسة النشاط السياحي الثقافي... فإنّه الآن يُدرّس في إحدى الجامعات في دمشق! أين المشكلة؟ نعم، حاولنا مساعدة كل مَن استطعنا بكل طريقة حلال وبدون أي كسب مادي، ولا نشعر بالذنب.

من الأمور التي قد تُثير الضحك، لو لم تشكّل خطرًا حقيقيًا لاستمرارية خدمتنا في الدير، تُهمة ب "إضافة رموز يهودية للديانة المسيحية" ولا يدخل "النص" في التفاصيل... سمعنا من مصادر أُخرى أنّ البعض ينزعج من لبس الرهبان طاقية على رؤوسهم، فالأمر تقليدي جدًا بين الرهبان وعامة بين العرب. فقد نظرتُ دائمًا بإعجاب إلى المُختار جرجس مرشاق المذكور في "النص" الذي يلبسها دائمًا أثناء حضوره في الكنيسة. هناك من يقول أننا نسجد في الكنيسة مثل المسلمين... أما العكس فهو صحيح فالمسلمون يسجدون في المساجد مثل الرهبان القدماء في كنائسهم. فإذا كان بعض المسيحيين المشرقيين فقدوا تقاليدهم وتبنّوا شيئًا من تصرفات الكنيسة الغربية فهذا ليست مشكلة كبيرة ... إلا أنّ حبّنا لما هو متأصّل في دين الآباء ومُشترَك بين أهل التقوى أجمعين في منطقتنا أمرٌ شريف ولا يستحق لومًا سطحيًا.

يذكر "النص" قصةً قديمة بموضوع قراءة الكتابات العربية الموجودة على جدار كنيسة الدير والعائدة إلى القرن الحادي عشر الميلادي، الخامس الهجري. المسألة بحدّ ذاتها تخصُّ علم قراءة الكتابات الجدارية القديمة وليس له صلة بالافتراضات البغيضة. هناك في العالم كله، ولاسيّما في الشرق الأوسط، أديرة لها اسم أحد النبيّين القدماء. فللنبيّ إلياس أديرة، وللنبيّ إبراهيم أديرة، وللنبيّ موسى أديرة، ولغيرهم أديرة، وليس للأمر صلة باليهود أو دينهم إلا بقدر ما هناك الشيء الكثير المشترك بين اليهود والنّصارى ... والمسلمين ! وهذا من فعل الله وله الحمد. وليس هناك أي صلة أو علاقة مع الدولة الصهيونية فلكل هذه الأديرة وجود قبل أن يكون للصهاينة أي وجود... وتبقى من بعدهم إن شاء الله. فعلى من يريد أن يدقّق في الموضوع أن يعود إلى مراجع علميّة ويجد فيها أنّ هناك ذكر للنبيّ موسى في كتابة جدارية من عام 450 هجري، 1058 ميلادي، ويقال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم عمرت هذه الكنيسة بعون الله على اسم السيدة والقديس مر موشا النبي وكان متولى عمارتها موسى واخوته اولاد ابو الاسد غفر الله لهم ولوالديهما ولكل من قدم في هذا الموضع شيا سنه خمسين واربع مايه". (أنظر آخر مقالة علمية بحسب معرفتي: J. den Heijer and athers, Deir Mar Musa: The Inscriptions, in ECA 4 (2007), p. 133-185)

ومع ذلك نحن لم نسلّم لهذه الكتابة بل ذكرناها من باب ضرورة الأمانة العلمية. فإنما الدير يحمل اسم القدّيس مار موسى الحبشي وهو أحد النّساك العجائبيّين للكنيسة السريانية وهو شهيد. وتقول سيرته أنه توفي في الدير هذا في النبك أثناء حرب الروم والفرس المذكورة في القرآن الكريم في سورة الروم. ولربّما كانت الفورة ضدي منذ أكثر من عشر سنوات تحت هذه الحجة نافعة، طالما أظهرت محبة أهل النبك من مسلمين ومسيحيين لهذا القدّيس وتمسكهم بشفيع بلدتهم هذا الظافر بأمانته لربّه إلى درجة الاستشهاد. وبالنّسبة لي شخصيّاً أعتبر مار موسى الحبشي شفيعي الخاص يحميني بإذن الله من كل غدّار كذّاب... فلن أحيا يوما أكثر من قدري!

أثار ضحكي قول "النّص" أنّني أقيم في الدّير الحوار الإسلامي المسيحي لأبرهن استحالته... لا أحتاج أن أدافع عن نفسي فجلساتُ الحوار التي عُقدت في دير مار موسى مسجلّة وبمعظمها مطبوعة، وتُعتبر نموذجاً للحوار النّاجح البنّاء من خلال الصراحة وعدم تسخير الآراء والجو الديمقراطي التعددي، وفوق كل شيء عبر عدم استعمال الدين لأجل غايات شخصية ومصالح مخفية. لا تتعجب أيها القارئ أن مثل هذا الحوار منع من قبل السلطات الأمنية في الدير منذ أكثر من سنتين.

يدّعي كاتب "النص" المجهول أنني بعت أيقونتين للدير في تايلاند... ما زلت أضحك وأنا أجاوب أنني لم أدخل تايلاند أبدا في حياتي وإذ كان المقصود هو أيقونات مرسومة على قطع خشبية فمن الجدير بالذكر أنّه، ولو افترضنا أنها كانت موجودة في القديم، لم يبقى لها وجود في دير مار موسى الأثري المتدهور منذ سنوات عديدة قبل قدومي إليه. فإنني لم أجد الدير إلا خرابة خالية. أما إذا كان المقصود الرسومات الجدارية فكنت البطل في سبيل الحفاظ عليها وتوفير أفضل ترميم ممكن لها، نظرًا إلى الظروف. وبهذا أفتخر فعلاً ولست أنا وحدي بل كل الذين ساهموا ودعموا، وفي الصف الأمامي أهلنا في النبك من مواطنين مسلمين ومسيحيين. نعم، هناك من باع أيقونات لسوريا في الخارج وآثارات من سوريا أيضاً... وكم نرجو أن يتغير هذا الأمر في جملة الأمور التي نساهم في تغييرها مع شبيبة هذا الوطن الغالي الواعية والسخية.

يتابع "النصّ" الرصاصيّ بذكر مصادرة الأراضي من قبلنا. يعرف كل الناس في القلمون أن مشكلة التحديد والتحرير في منطقتا ليست أقل تعقيداً من مناطق أخرى. فتمّ تصحير مساحات هائلة من أراضي الدولة من خلال فلاحة مضرة لا تقصد سوى الاستملاك التعسفي. عمل دير مار موسى على إعادة تأهيل الأراضي المسجلة تقليدياً لملكيّته في سجلات النبك، كما عمل على مكافحة التصحر في وادي الدير التابع له تقليديًا، وذلك بتعاون مع أهم المراكز العلمية المختصّة ومساهمة المجتمع الأهلي النبكي ومشاركته الطوعية. ولكن عندما رأى البعض أن هناك عشرات الآلاف من الزوار يقدمون إلى الدير كل سنة، وشاهد البعض ازدهار السياحة المحلية والبينية والأجنبية فيه، أسرعوا بكافة الوسائل إلى المطالبة بملكية الأراضي المجاورة لمركز الزوار في الدير. وإنّ هذه الأراضي تعود ملكيتُها بمعظمها وبطبيعة الحال إلى الأملاك العامة أو إلى الدير الذي تصرّف في تأهيلها وتحسينها واستخدامها للخير العام لمدة عشرين عاماً.

نعم، ألغى وزير الزراعة، تجاوباً مع توجيهات أمنية، المحمية المجاورة للدير التي هي ملك الدولة وملك السكان المحليين لا ملكي الخاص. وكم فرحت عندما لاحظت أن أهل النبك والمنطقة، وبالرغم من الظروف الصعبة الحالية، هم الذين يحمون اليوم المحمية ويقرّون بوجودها ويساعدون على حفاظها. بينما وللأسف الشديد تركت الجهاتُ المسؤولة مكبّ نفايات النبك غير البعيد عن الدير في حالة مزرية جداً ومخجلة للغاية ومضرّة بصحة السكان المحليين والمواشي والمحيط الحيوي برمته. وهذا من بعد ما ساهمنا مرّتين لدرّ المساعدات المحلية والدولية واشتركنا بأيدينا في تنظيف المكبّ وإعادة تأهيل المنطقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

لا بد مني الآن أن أعالج آخر بند من بنود "النصّ" المشؤوم الباغض، لعله الأخطر، ألا وهو طردي وعدم طردي من البلد. توقف إذن إقامتي في شهر آذار- مارس 2011 وبدون أي تبليغ للسبب. مع ذلك، مراعاةً لتضامن الكثيرين من أصدقاء الأب باولو والأوفياء لسورية في الخارج والداخل، قررت السلطات توقيف تنفيذ القرار، وهذا بالرغم من التقارير الأمنية الخطرة جداً ضدي والصادرة على ما يبدو من أجواء كنسية مصابة بالفساد وتحتاج إلى أن تتخلص من شخص قد أخذ ضمن الكنيسة مواقف إصلاحية واضحة وصريحة.

التزمتُ مع كل من يخاف على سورية في المساهمة لأجل الحصول على حل توافقي وغير عنيف للأزمة والحراك الإصلاحي. وليس التزامي هذا جديداً. فمنذ ثلاثين عاماً وأنا أعمل في آفاق توسيع حلقة الوفاق الوطني بتفعيل قدرات السوريين المميزة على حسن الجوار والاحترام للأخ المواطن المختلف لسبب أم آخر والتشاركية في القيم وأرقى المعتقدات. ودائماً تعاملت بمنتهى الانفتاح والشفافية مع السلطات المحلية والمركزية مؤمناً بإيجابية التطور الوطني وشرعية قضايا البلد ضمن الحركة العالمية المتعددة للمقاومة ضد منطق الهيمنة والقطب الأوحد وضد مفهوم للمجتمع الدولي لا يمتّ بصلة مع حقوق الإنسان والعدالة بل بالعولمة المصلحجية الانتهازية.

صمنا لأجل المصالحة في سوريا كما كنا قد صمنا لأجل عدم الهجوم المسلح على العراق وضد العقوبات الاقتصادية التي تعذب وتقتل الشعوب البريئة... نعم، كنت دائما أطالب ولم أزل باحترام حرية الرأي وحرية التعبير لأنني على كامل الاعتقاد أنهما تشكلان اليوم الشرط الأساسي لكل تطور إيجابي وإصلاح مُرضيّ. وكذلك لم أنفك أرفض منطق الكفاح المسلح الأهلي وكل استخدام للعنف في الحراك السياسي.

استغرَب البعضُ وتفاجَئ البعض الآخر من اتخاذ السلطات السورية قراراً بإبعادي في الشهر الحادي عشر تشرين الثاني نوفمبر المنصرم. ومرةً أخرى ارتفعت الأصوات الطالبة والمطالبة ببقائي في هذا الوطن العزيز. إني أشكر كل الذين ساهموا في بقائي في سوريا على تنوع مواقفهم ومسؤولياتهم.

وفي النهاية أتساءل: ما الذي في بال هؤلاء الذين يسمحون لأنفسهم أن يلبسوا أبشع وأخطر الاتهامات دون أي برهان ودليل لإنسان بريء منها. أين السبب العميق لهذا التصرف المعاكس للفضائل التي يفتخر بها العرب؟ ما هو الدافع المخفي لهذه العدوانية التي قد تقود إلى أبشع النتائج؟ أين الضمير لهؤلاء الذين شهدوا عليّ بالباطل؟ فكيف بإمكاني أن أصمت بعد اليوم؟

Arabic